القضيّة ليست فرديّة

تم نشر هذا النص بقلم الرفيقة زرقاء اليمامة العالقة في غربة الغربة

لم تعد الصورة أوضح مما عليه الأن في ظلّ أحداث ٧ أكتوبر. أبطالنا عملوها. ذلّوا العدو وأعادوا شرف أمة ظن أهلها أنه انطفأ نورها.

 منذ ايام قليلة فقط طلع الطفل الغيمر (مهوس العاب الفيديو) الي مفكر حالو زعيم محمد بن سلمان وجدد عهد ركوعه للامريكان، أسياده واسياد عشيرته. بغباء شديد طل بعينيه الطموحتين العطشتين للسلطة ونظر بعدسة الكاميرا وبوجه الخنزير الابيض الصحفي أمامه من فوكس نيوز وقال بتعجرف مقزز ان التطبيع مع العدو قادم لا محالة او هكذا كانت مغزى رسالته. قال للعالم العربي ولأسياده من العرق الابيض ان فلسطين بيده وقد ساوم عليها من اجل ان يجعل بلده عظيما. وكأن فلسطين ملك ابوه! خنزير البترول عجل المناسف. كل مرة يظن العالم بانه قضى على فلسطين وغيّبها عن الوجود ليخرج أبطالها من بين الانقاض نافضين عن العيون الواهمة والقلوب الضعيفة  وهم موت القضيّة.

لم اعد اعرف كم من احداث ومن حروب مرت وانا مازلت عالقة هنا في بريطانيا. لقد مضى على وجودي في مقبرة أوروبا ما يعادل العشر سنوات. لم تقع عيني على ارض بلدي منذ أن هجرتها، وفقط الشهر الماضي تسنى لي السفر الى تركيا حيث التقيت بأهلي لأول مرة بعد كل هذه السنوات. من الصعب وصف مشاعري، فكلمات القاموس اللغوي لا تستطيع التعبير عنها. لهذا لقد انقطعت عن الكتابة منذ زمن . فالمعاني الحقيقية لا يمكن ادراكها بلغة الكلام. الصمت، الصمت، ثم الصمت الطويل وحده يستطيع ان يتحمل عبئ الصور والأحداث وألم الانفصال والتناقضات والتشرد والإحساس بوحشة الغربة داخل الغربة.

القضية ليست شخصية او فردية. القضية جماعية وممتدة ومتدفقة كتدفق نهر الدم الذي تذرفه غزّة الآن. لقد أيقظتني فلسطين كالعادة وذكرتني بانني مازلت على قيد الحياة، تماما كما ايقظت العالم على مدى نفاقه وخذلانه لاي معان مرتبطة بالانسانية. 

لم تعد الصورة أوضح مما هي عليه الآن، فمشاعر الغضب التي تعتريني وأنا أشاهد أخبار البي بي سي وغيرها من أبواق الإعلام الغربية تبثّ أحداث غزّة وفلسطين يكاد يمزّق شراييني. ويعود ليطرح السؤال عينه الذي أحاول تخديره جميع هذه السنوات بلا هوادة. ماذا أفعل هنا؟ يفتح باب ذكريات الماضي والحاضر.. الماضي الذي انفصلت عنه بجسدي وعلقت فيه روحي للأبد، هو ماض مكتس  بالحرب والطرد والرفض والتحرر من عبودية فرضت على نساء عشيرتي وهروب وصراعات وجمال وحب وكل ما يتخيله عقل من تناقضات تصقل الروح، فهي لم تكسرها بل أحيتها لتصبح أكبر من الحياة بعينها. والحاضر المتعلق بالواقع الجديد، بالبلد الذي رفض استقبالك وجعلك لا معلّقة ولا مطلّقة، ورحلة التشرّد الطويلة، والتسكّع الأبدي خارج المنظومة وكلّ والأطر الإجتماعيّة. وكأنّ حياة الإنسان فيها موضوعة رهن الانتظار. 

لكن نعم ففي مثل هذه الأوقات أتذكر أنّ لي امتداد.. أشاهد أعضاء جسدي تلتصق ببعضها من جديد، أراني واحدة، و يلتحم تمزّقي. لكنّ سؤالا لا يستطيع الخروج من رأسي، ماذا أفعل هنا؟ جوابه واضح وعملي. تحكمه ظروف الماضي القاهرة والصعوبات الحياتية كالحصول على الجنسيّة أي الحصول على الحقّ بالتنقل والانتماء إلى دولة تدّعي أنها تستطيع حمايتك أو تأمين لك الحياة الكريمة. يبدو كلّ شيء فارغ وسخيف. النطرة الطويلة عشان شو؟ عشان ورقة. فالتضحيات التي يقدمها الشباب الثائر والناس بفلسطين يُخجل الحجر والبشر. وكيف يمكن لك أن تفسري للناس هنا حولك معنى الحرية، هم الذين يدعون الحرية. كيف يمكن أن يدركوا عظمة الناس الذين يبذلون دماءهم وحياتهم من أجل الحريّة الحقيقية وليست حريّة الرأسمالية التي ما هي إلا شكل من أشكال العبوديّة. كيف يمكن أن تفسّري لهم شعور الانتماء الى القضية التي هي أكبر من الإنشغال بالذات الفردية، وهم الذين باتت قضاياهم مهووسة بالفرد بشكل قاتل لدرجة الوقوع بالفراغ الروحي المدقع. 

لم تعد الصورة أوضح مما هي عليه الآن، فقد كشف القناع والكذبة التي خلقوها وصدّقوها وبثّوها من خلال أبواق إعلامهم لعقود طويلة. فهي لم تعد قادرة على الصمود أمام شعب استمرّ صموده أكثر من ٧٥ عاما دون أن يقهر. منذ أن وطأت قدماي بريطانيا لم أشعر بمثل هذا الاضطهاد وذلك رغم تجربتي مع الهوم أوفيس لسنوات طويلة وصراعي بدون أوراق. فنعم القضية ليست شخصية أو فرديّة، بل هي جماعية. والإستعمار لم ينته بل فقط تلوّن بأشكال أخرى، مما يجهله أكثر ضراوة وخداعا. إسرائيل هي ذلك الخنجر الذي زرعه الاستعمار في قلب منطقتنا بلاد الشام. عندما هاجر جدّي من سوريا إلى لبنان في الخمسينات وحصل على الجنسية اللبنانية بسهولة كانت الحدود التي تفصل البلدين لها معان أخرى وواقعها بعيد كلّ البعد عن معنى الحدود ذاتها الموجودة الآن. وكذلك عندما كان الناس يذهبون من شاطى بيروت إلى شاطئ عكّا قبل الاحتلال الصهيوني لفلسطين. أما بالنسبة لي اليوم فأنا محرومة من زيارة كلّ هذه البلدان، وكلّها بالنسبة لي جغرافيا واحدة أنتمي لجميعها دون أي استثناء. فإن قصّة الاستعمار التي قسّمتها هي ذاتها قصّة الاستعمار الذي حرمتني من أن أعيش فيها بكرامة وشلّتها حتّى دفعت بها إلى خذلان شبابها ولجوئهم لليأس أو للهجرة. 

في السابق كنت أشعر أنّ بلدي خذلني، لكنّ اليوم العكس هو الصحيح. أشعر أنّني خذلته وأشعر بأنّ جوانحي مقلّمة. فأنا ذاتها الطفلة التي تربّت على بطولات يحيى عيّاش وهو الذي كان مثلي الأعلى. اليوم أخاف أن أهتف باسمه في المظاهرات التي أرتادها بلندن لدعم فلسطين ووقف المذابح التي تمارس بحق أهل غزّة. أخاف أن أهتف باسم البطل محمّد الضّيف خشية أن يحرموني من الجنسيّة البريطانيّة. نعم فحقّنا بالدفاع عن أنفسنا يسّمى إرهابا، والتّغنّي بأبطالنا يمكن أن يحرمنا مجدّدا بفرصة ما يسمّى الحياة الكريمة. وأي حياة هذه مملوءة بالذلّ؟ أي حياة هذه لا يستطيع الإنسان فيها أن يكون نفسه. 

زرقاء اليمامة